الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)
.تفسير الآية رقم (45): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِالثَّبَاتِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَذِكْرِ اللَّهِ كَثِيرًا مُشِيرًا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلْفَلَاحِ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، أَوْ مُسْتَلْزِمٌ لِلنَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ، كَمَا عُلِمَ فِي الْأُصُولِ، فَتَدُلُّ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ عَدَمِ الثَّبَاتِ أَمَامَ الْكَفَّارِ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِهَذَا الْمَدْلُولِ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [8/ 15]، إِلَى قَوْلِهِ: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [8/ 16]، وَفِي الْأَمْرِ بِالْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَضْيَقِ الْأَوْقَاتِ وَهُوَ وَقْتُ الْتِحَامِ الْقِتَالِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَنْبَغِي لَهُ الْإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَا سِيَّمَا فِي وَقْتِ الضِّيقِ، وَالْمُحِبُّ الصَّادِقُ فِي حُبِّهِ لَا يَنْسَى مَحْبُوبَهُ عِنْدَ نُزُولِ الشَّدَائِدِ.قَالَ عَنْتَرَةُ فِي مُعَلَّقَتِهِ: [الْكَامِلُ]:وَقَالَ الْآخَرُ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كُلُّ لَعَلَّ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ لِلتَّعْلِيلِ إِلَّا الَّتِي فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [129]، فَهِيَ بِمَعْنَى كَأَنَّكُمْ تَخْلُدُونَ.قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: لَفْظَةُ لَعَلَّ قَدْ تَرِدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مُرَادًا بِهَا التَّعْلِيلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: [الطَّوِيلُ]فَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ لَعَلَّنَا نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مُوثَقِ فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ كَشِبْهِ سَرَابٍ بِالْمَلَا مُتَأَلِّقِ فَقَوْلُهُ لَعَلَّنَا نَكُفُّ يَعْنِي: لِأَجْلِ أَنْ نَكُفَّ، وَكَوْنُهَا لِلتَّعْلِيلِ لَا يُنَافِي مَعْنَى التَّرَجِّي؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْمَعْلُولِ يُرْجَى عِنْدَ وُجُودِ عِلَّتِهِ. .تفسير الآية رقم (46): {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} الْآيَةَ.نَهَى اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنِ التَّنَازُعِ، مُبَيِّنًا أَنَّهُ سَبَبُ الْفَشَلِ، وَذَهَابُ الْقُوَّةِ، وَنَهَى عَنِ الْفُرْقَةِ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [3/ 103]، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [8/ 46]، أَيْ: قَوَّتُكُمْ.وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: نَصْرُكُمْ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: الرِّيحُ لِفُلَانٍ؛ إِذَا كَانَ غَالِبًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: [الْوَافِرُ]:وَاسْمُ إِنَّ ضَمِيرُ الشَّأْنِ.وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: الرِّيحُ: الدَّوْلَةُ، شُبِّهَتْ فِي نُفُوذِ أَمْرِهَا، وَتَمَشِّيهِ بِالرِّيحِ فِي هُبُوبِهَا، فَقِيلَ: هَبَّتْ رِيَاحُ فُلَانٍ، إِذَا دَالَتْ لَهُ الدَّوْلَةُ، وَنَفَذَ أَمْرُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: [الْبَسِيطُ]: .تفسير الآية رقم (48): {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ}.ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الشَّيْطَانَ غَرَّ الْكُفَّارَ، وَخَدَعَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: لَا غَالِبَ لَكُمْ وَأَنَا جَارٌ لَكُمْ.وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّهُ تَمَثَّلَ لَهُمْ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ سَيِّدِ بَنِي مُدْلِجِ بْنِ بَكْرِ بْنِ كِنَانَةَ، وَقَالَ لَهُمْ مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَنَّهُ مُجِيرُهُمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ، {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} [8/ 48]، عِنْدَمَا رَأَى الْمَلَائِكَةَ وَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، فَكَانَ حَاصِلُ أَمْرِهِ أَنَّهُ غَرَّهُمْ، وَخَدَعَهُمْ حَتَّى أَوْرَدَهُمُ الْهَلَاكَ، ثُمَّ تَبَرَّأَ مِنْهُمْ.وَهَذِهِ هِيَ عَادَةُ الشَّيْطَانِ مَعَ الْإِنْسَانِ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} الْآيَةَ [59/ 16]. وَقَوْلِهِ: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [14/ 22]، إِلَى قَوْلِهِ: إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ. وَكَقَوْلِهِ: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [4/ 120]، وَقَدْ قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: [الْبَسِيطُ]سِرْنَا وَسَارُوا إِلَى بَدْرٍ لِحِينِهِمُ لَوْ يَعْلَمُونَ يَقِينَ الْأَمْرِ مَا سَارُوا دَلَّاهُمُ بِغُرُورٍ ثُمَّ أَسْلَمَهُمْ إِنَّ الْخَبِيثَ لِمَنْ وَلَّاهُ غَرَّارُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِسَبَبِ ذَنْبٍ ارْتَكَبَهُ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [13/ 11]، وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [42/ 30]، وَقَوْلِهِ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [4/ 79] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ..تفسير الآية رقم (64): {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ قَوْلَهُ: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ} [8/ 64]، فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالْعَطْفِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَيْ حَسْبُكَ اللَّهُ، وَحَسْبُكَ أَيْضًا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا: الْحَسَنُ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ، كَمَا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ فِي مَحَلِّ خَفْضٍ بِالْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ الْكَافُ فِي قَوْلِهِ: حَسْبَكَ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: حَسْبَكَ اللَّهُ أَيْ: كَافِيكَ وَكَافِي مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا، وَصَدَّرَ بِهِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَالْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الْوَجْهِ الْأَخِيرِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى كَافِيكَ اللَّهُ، وَكَافِي مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِدَلَالَةِ الِاسْتِقْرَاءِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الْحَسْبَ وَالْكِفَايَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [9/ 59]، فَجَعَلَ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا قَالَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [59/ 7]، وَجَعَلَ الْحَسْبَ لَهُ وَحْدَهُ، فَلَمْ يَقُلْ: وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، بَلْ جَعَلَ الْحَسْبَ مُخْتَصًّا بِهِ وَقَالَ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [39/ 36]؟ فَخَصَّ الْكِفَايَةَ الَّتِي هِيَ الْحَسْبُ بِهِ وَحْدَهُ، وَتَمَدَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [65/ 3]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [8/ 62]، فَفَرَّقَ بَيْنَ الْحَسْبِ وَالتَّأْيِيدِ، فَجَعَلَ الْحَسْبَ لَهُ وَحْدَهُ، وَجَعَلَ التَّأْيِيدَ لَهُ بِنَصْرِهِ وَبِعِبَادِهِ.وَقَدْ أَثْنَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالتَّوَكُّلِ مِنْ عِبَادِهِ حَيْثُ أَفْرَدُوهُ بِالْحَسْبِ، فَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [3/ 173] وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} الْآيَةَ [9/ 129]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْوَجْهُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، فِيهِ أَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَخْفُوضِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْخَافِضِ، ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ: [الرَّجَزُ]وَعَوْدُ خَافِضٍ لَدَى عَطْفٍ عَلَى ضَمِيرِ خَفْضٍ لَازِمًا قَدْ جُعِلَا فَالْجَوَابُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ صَحَّحُوا جَوَازَ الْعَطْفِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْخَافِضِ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ: [الرَّجَزُ]:وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [127] شَوَاهِدَهُ الْعَرَبِيَّةَ، وَدَلَالَةَ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ عَلَيْهِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [4/ 1].الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ الْكَافِ مَخْفُوضٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ؛ إِذْ مَعْنَى حَسْبَكَ: يَكْفِيكَ، قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: [الرَّجَزُ]: الْوَجْهُ الثَّالِثُ: نَصْبُهُ بِكَوْنِهِ مَفْعُولًا مَعَهُ، عَلَى تَقْدِيرِ ضَعْفِ وَجْهِ الْعَطْفِ، كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: [الرَّجَزُ]وَالْعَطْفُ إِنْ يُمْكِنْ بِلَا ضَعْفٍ أَحَقْ وَالنَّصْبُ مُخْتَارٌ لَدَى ضَعْفِ النَّسَقْ الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ وَمَنْ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَحَسْبُهُمُ اللَّهُ أَيْضًا، فَيَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْجُمْلَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. .تفسير الآية رقم (75): {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.لَمْ يُعَيِّنْ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمُرَادَ بِأُولِي الْأَرْحَامِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هَلْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْهَا أَوْ لَا، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهَا بَيَّنَتْهَا آيَاتُ الْمَوَارِيثِ، كَمَا قَدَّمْنَا نَظِيرَهُ فِي قَوْلِهِ: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [4/ 7].قَالُوا: فَلَا إِرْثَ لِأَحَدٍ مِنْ أُولِي الْأَرْحَامِ غَيْرُ مَنْ عُيِّنَتْ لَهُمْ حُقُوقُهُمْ فِي آيَاتِ الْمَوَارِيثِ.وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالُوا: الْبَاقِي عَنْ نَصِيبِ الْوَرَثَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَى إِرْثِهِمْ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.وَرَوَاهُ أَيْضًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حَجَرٍ، وَلَا يَضْعُفُ بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عَيَّاشٍ، لِمَا قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ رِوَايَتَهُ عَنِ الشَّامِيِّينَ قَوِيَّةٌ، وَشَيْخُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ هَذَا شُرَحْبِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَهُوَ شَامِيٌّ ثِقَةٌ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي رِوَايَتِهِ بِالتَّحْدِيثِ.وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: صَدُوقٌ فِيهِ لِينٌ، فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حَجَرٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ» يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي التَّرِكَةِ حَقٌّ لِغَيْرِ مَنْ عُيِّنَتْ لَهُمْ أَنْصِبَاؤُهُمْ فِي آيَاتِ الْمَوَارِيثِ.وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ: الْمُرَادُ بِذَوِي الْأَرْحَامِ الْعُصْبَةُ خَاصَّةً، قَالُوا: وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: وَصَلَتْكَ رَحِمٌ، يَعْنُونَ قَرَابَةَ الْأَبِ دُونَ قَرَابَةِ الْأُمِّ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَتِيلَةَ بْنِ الْحَارِثِ، أَوْ بِنْتِ النَّضْرِ بِنْتِ الْحَارِثِ: [الْكَامِلُ]:فَأَطْلَقَتِ الْأَرْحَامَ عَلَى قَرَابَةِ بَنِي أَبِيهِ، وَالْأَظْهَرُ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ التَّوْرِيثِ، أَنَّ الْمُرَادَ بِذَوِي الْأَرْحَامِ الْقُرَبَاءُ، الَّذِينَ بُيِّنَتْ حُقُوقُهُمْ بِالنَّصِّ مُطْلَقًا. وَاحْتَجَّ أَيْضًا مَنْ قَالَ: لَا يَرِثُ ذَوُو الْأَرْحَامِ، بِمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ إِلَى قُبَاءَ يَسْتَخِيرُ فِي مِيرَاثِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ: «لَا مِيرَاثَ لَهُمَا»، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، فِي الْمَرَاسِيلِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءٍ، مُرْسَلًا، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، مِنْ مُرْسَلِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ عَطَاءٍ، وَرَدَّ الْمُخَالِفُ هَذَا بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ.وَأُجِيبُ بِأَنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ: الِاحْتِجَاجُ بِالْمُرْسَلِ، وَبِأَنَّهُ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، مَوْصُولًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَصْلِهِ مِنْ طَرِيقَيْنِ.إِحْدَاهُمَا: مِنْ رِوَايَةِ ضِرَارِ بْنِ صُرَدٍ أَبِي نُعَيْمٍ.وَالثَّانِيَةُ: مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدٍ، مَرْفُوعًا.وَقَالَ مُحَشِّيهِ، صَاحِبُ الْجَوْهَرِ النَّقِيِّ فِي ضِرَارٍ الْمَذْكُورِ: إِنَّهُ مَتْرُوكٌ، وَعَزَا ذَلِكَ لِلنَّسَائِيِّ، وَعَزَا تَكْذِيبَهُ لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ.وَقَالَ فِي ابْنِ أَبِي نَمِرٍ: فِيهِ كَلَامٌ يَسِيرٌ، وَفِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدٍ: إِنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ، وَلَا ذِكْرَ لَهُ إِلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ ضِرَارَ بْنَ صُرَدٍ مَتْرُوكٌ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ صَدُوقٌ لَهُ بَعْضُ أَوْهَامٍ لَا تُوجِبُ تَرْكَهُ.وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: صَدُوقٌ لَهُ أَوْهَامٌ وَخَطَأٌ، وَرُمِيَ بِالتَّشَيُّعِ، وَكَانَ عَارِفًا بِالْفَرَائِضِ.وَأَمَّا ابْنُ أَبِي نَمِرٍ: فَهُوَ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ.وَأَمَّا إِسْنَادُ الْحَاكِمِ: فَقَالَ فِيهِ الشَّوْكَانِيُّ، فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: إِنَّهُ ضَعِيفٌ وَقَالَ فِي إِسْنَادِ الطَّبَرَانِيِّ: فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ الْمَخْزُومِيُّ، قُلْتُ: قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: مَقْبُولٌ، وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ أَيْضًا، قَالُوا: وَصَلَهُ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.وَيُجَابُ: بِأَنَّهُ ضَعَّفَهُ بِمَسْعَدَةَ بْنِ الْيَسَعِ الْبَاهِلِيِّ.قَالُوا: وَصَلَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَصَحَّحَهُ.وَيُجَابُ: بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ الْمَدَنِيَّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.قَالُوا: رَوَى لَهُ الْحَاكِمُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدٍ، مَرْفُوعًا.وَيُجَابُ: بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ الشَّاذَكُونِيَّ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ.قَالُوا: أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شَرِيكٍ.وَيُجَابُ: بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ. اهـ.قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذِهِ الطُّرُقُ الْمَوْصُولَةُ وَالْمُرْسَلَةُ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَصْلُحُ مَجْمُوعُهَا لِلِاحْتِجَاجِ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّ مِنْهَا مَا صَحَّحَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، كَالطَّرِيقِ الَّتِي صَحَّحَهَا الْحَاكِمُ، وَتَضْعِيفُهَا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَدَنِيِّ: فِيهِ أَنَّهُ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، وَأَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. اهـ.وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَنْظَلَةَ الزُّرَقِيِّ: أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ مَوْلَى لِقُرَيْشٍ كَانَ قَدِيمًا يُقَالُ لَهُ ابْنُ مُوسَى، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَلَمَّا صَلَّى الظَّهْرَ، قَالَ: يَا يَرْفَأُ، هَلُمَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ- لِكِتَابٍ كَتَبَهُ فِي شَأْنِ الْعَمَّةِ- فَنَسْأَلَ عَنْهَا، وَنَسْتَخْبِرَ عَنْهَا، فَأَتَاهُ بِهِ يَرْفَأُ فَدَعَا بِتَوْرٍ أَوْ قَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَمَحَا ذَلِكَ الْكِتَابَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ رَضِيَكَ اللَّهُ أَقَرَّكَ، لَوْ رَضِيَكَ اللَّهُ أَقَرَّكَ.وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ: كَثِيرًا يَقُولُ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: عَجَبًا لِلْعَمَّةِ تَرِثُ وَلَا تُورَثُ، وَالْجَمِيعُ فِيهِ مَقَالٌ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا بَيَانَ لِلْآيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ، بَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى عُمُومِهَا، فَأَوْجِبُوا الْمِيرَاثَ لِذَوِي الْأَرْحَامِ.وَضَابِطُهُمْ: أَنَّهُمُ الْأَقَارِبُ الَّذِينَ لَا فَرْضَ لَهُمْ وَلَا تَعْصِيبَ.وَهُمْ أَحَدَ عَشَرَ حَيِّزًا:1- أَوْلَادُ الْبَنَاتِ.2- وَأَوْلَادُ الْأَخَوَاتِ.3- وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ.4- وَأَوْلَادُ الْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ.5- وَالْعَمَّاتُ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ.6- وَالْعَمُّ مِنَ الْأُمِّ.7- وَالْأَخْوَالُ.8- وَالْخَالَاتُ.9- وَبَنَاتُ الْأَعْمَامِ.10- وَالْجَدُّ أَبُو الْأُمِّ.11- وَكُلُّ جَدَّةٍ أَدْلَتْ بِأَبٍ بَيْنَ أُمَّيْنِ، أَوْ بِأَبٍ أَعْلَى مِنَ الْجَدِّ.فَهَؤُلَاءِ، وَمَنْ أَدْلَى لَهُمْ يُسَمَّوْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِتَوْرِيثِهِمْ إِذَا لَمْ يُوجَدْ وَارِثٌ بِفَرْضٍ أَوْ تَعْصِيبٍ إِلَّا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ، عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَعَلْقَمَةُ، وَمَسْرُوقٌ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ، وَغَيْرُهُمْ.نَقَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي، وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [8/ 75]، وَعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} الْآيَةَ، وَمِنَ السُّنَّةِ بِحَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَأَنَا وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، أَعْقِلُ عَنْهُ، وَأَرِثُهُ، وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، يَعْقِلُ عَنْهُ وَيَرِثُهُ» أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ، وَحَسَّنَهُ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ، وَأَعَلَّهُ الْبَيْهَقِيُّ بِالِاضْطِرَابِ، وَنُقِلَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ قَوِيٌّ، قَالَهُ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ.وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ، أَنَّ رَجُلًا رَمَى رَجُلًا بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ إِلَّا خَالٌ، فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ إِلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُ وَرَسُولُهُ مَوْلَى مَنْ لَا مَوْلَى لَهُ، وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ الْمَرْفُوعَ مِنْهُ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.قَالَ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ، مِنْ رِوَايَةِ طَاوُسٍ، عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَالُ وَارْثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ»، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَأَعَلَّهُ النَّسَائِيُّ بِالِاضْطِرَابِ، وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ،وَالْبَيْهَقِيُّ وَقْفَهُ.قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ أَرْسَلَهُ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَائِشَةَ.وَقَالَ الْبَزَّارُ: أَحْسَنُ إِسْنَادٍ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْعُقَيْلِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، كُلُّهَا مَرْفُوعَةٌ. اهـ.قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَإِلَى هَذَا الْحَدِيثِ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ جَعَلَ مِيرَاثَ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ لِأُمِّهِ وَلِوَرَثَتِهَا مِنْ بَعْدِهَا: وَفِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ.قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا عِنْدِي، أَنَّ الْخَالَ يَرِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، دُونَ غَيْرِهِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ؛ لِثُبُوتِ ذَلِكَ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَعُمُومُ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لَا يَنْهَضُ دَلِيلًا؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ» كَمَا تَقَدَّمَ.فَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ، وَحُجَجَهُمْ فِي إِرْثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَعَدَمِهِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالتَّوْرِيثِ: اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّتِهِ، فَذَهَبَ الْمَعْرُوفُونَ مِنْهُمْ بِأَهْلِ التَّنْزِيلِ إِلَى تَنْزِيلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُدْلِي بِهِ مِنَ الْوَرَثَةِ، فَيُجْعَلُ لَهُ نَصِيبُهُ، فَإِنْ بَعُدُوا نَزَلُوا دَرَجَةً دَرَجَةً، إِلَى أَنْ يَصِلُوا مَنْ يُدْلُونَ بِهِ، فَيَأْخُذُونَ مِيرَاثَهُ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا أَخَذَ الْمَالَ كُلَّهُ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً، قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَ مَنْ يُدْلُونَ بِهِ، فَمَا حَصَلَ لِكُلِّ وَارِثٍ جُعِلَ لِمَنْ يُدْلِي بِهِ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْ سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ شَيْءٌ، رُدَّ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ سِهَامِهِمْ.وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ، وَمَسْرُوقٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَحَمَّادٍ، وَنُعَيْمٍ، وَشَرِيكٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ؛ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي.وَقَالَ أَيْضًا: قَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُمَا نَزَّلَا بِنْتَ الْبِنْتِ مَنْزِلَةَ الْبِنْتِ، وَبِنْتَ الْأَخِ مَنْزِلَةَ الْأَخِ، وَبِنْتَ الْأُخْتِ مَنْزِلَةَ الْأُخْتِ، وَالْعَمَّةَ مَنْزِلَةَ الْأَبِ، وَالْخَالَةَ مَنْزِلَةَ الْأُمِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْعَمَّةِ، وَالْخَالَةِ.وَعَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا: أَنَّهُ نَزَّلَ الْعَمَّةَ مَنْزِلَةَ الْعَمِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلْقَمَةَ، وَمَسْرُوقٍ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ، وَعَنِ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ: أَنَّهُمَا نَزَّلَاهَا مَنْزِلَةَ الْجَدِّ مَعَ وَلَدِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، وَنَزَّلَهَا آخَرُونَ مَنْزِلَةَ الْجَدَّةِ.وَإِنَّمَا صَارَ هَذَا الْخِلَافُ فِي الْعَمَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَدْلَتْ بِأَرْبَعِ جِهَاتٍ وَارِثَاتٍ: فَالْأَبُ وَالْعَمُّ أَخَوَاهَا، وَالْجَدُّ وَالْجَدَّةُ أَبَوَاهَا، وَنَزَّلَ قَوْمَ الْخَالَةِ مَنْزِلَةَ جَدَّةٍ؛ لِأَنَّ الْجَدَّةَ أُمُّهَا، وَالصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ تَنْزِيلُ الْعَمَّةِ أَبًا، وَالْخَالَةِ أُمًّا. اهـ. مِنَ الْمُغْنِي.وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى مِمَّنْ قَالَ بِالتَّوْرِيثِ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّهُمْ يُوَرَّثُونَ عَلَى تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ، فَقَالُوا: يُقَدَّمُ أَوْلَادُ الْمَيِّتِ وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ أَوْلَادُ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدُهُمَا وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ أَوْلَادُ أَبَوَيْ أَبَوَيْهِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَهَكَذَا أَبَدًا لَا يَرِثُ بَنُو أَبٍ أَعْلَى وَهُنَاكَ بَنُو أَبٍ أَقْرَبُ مِنْهُ، وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُمْ.وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ جَعَلَ أَبَا الْأُمِّ، وَإِنْ عَلَا أَوْلَى مِنْ وَلَدِ الْبَنَاتِ، وَيُسَمَّى مَذْهَبُ هَؤُلَاءِ: مَذْهَبَ أَهْلِ الْقَرَابَةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
|